من يُخطط للقضاء على قوة الانتقالي تحت مبرر الهيكلة أو الدمج؟
الوسطى اونلاين _تحليل/ أ.د. خالد مثنى حبيب:
تعد هيكلة القوات العسكرية والأمنية في بلد مثل اليمن، بتناقضاته المعروفة ومشاكله السياسية وتركيبته القبلية والمذهبية، من أعقد المشكلات، وما زادها تعقيدًا حرب 1994 التي دمرت مقومات الدولتين في الشمال والجنوب واستبدالها بمراكز قوى عسكرية وقبلية وطائفية وتجارية قابلة للتناحر فيما بينها لا يهمها إلا مصالحها الخاصة، غير مكترثة بمصلحة الشعب ومستقبل الأجيال القادمة.
إن مشكلة الهيكلة ليست وليدة اليوم بل ترتبط جذورها بجذور الصراعات في الشمال والتي لم تسفر عن هيكلة حقيقية وطنية لبنيان الجيش وأخذت هذه المشكلة اتساعًا بعد قيام الوحدة المشؤومة في عام 90 عندما احتدم الصراع بين شريكي الوحدة على دمج الجيشين، فكان حينها الطرف الشمالي هو الرافض للدمج وقد تسببت تلك المشكلة بتفجير حرب 94 واحتلال الجنوب.
لقد كانت فكرة الدمج حينها غير ممكنة لاختلاف النوايا بين الشريكين وعدم التجانس بين الجيشين من حيث المقومات والإمكانات والتدريب والعقيدة والجاهزية القتالية، ويمكننا الاستدلال بما حدث حينها مع اللجنة العسكرية المشتركة ولجنة الحوار لحل الأزمة السياسية التي نشبت بين شريكي الوحدة والتي من مهامها إعداد مشروع لدمج القوات المسلحة والأمن، وما سمعناه من الأخبار حينها وتأكد لنا فيما بعد أن قائد اللواء الثالث مدرع العقيد سيف صالح البقري حاول بتوجيهات من وزير الدفاع هيثم قاسم طاهر أن يتوصل إلى صيغة لدمج اللواء الثالث الجنوبي مع اللواء الأول المدرع الشمالي إلا أنه فشل، ويروي أنه ذهب إلى أحد الاجتماعات التي حضرها علي محسن الأحمر وبحوزته الكشوفات حول تعداد عسكر لوائه وتسليحه ومرتباته..إلخ وطلب أن يحضر الطرف الآخر كشوفاته، وكانت الإجابة أن ذلك ليس من اختصاصه رغم أنه عضو لجنة دمج القوات، وعند الإلحاح، قيل له إن الكشوفات لا تحدد التعداد الفعلي لعساكر اللواء وبالتالي لا تعطي صورة نهائية عن تشكيل الفرقة الأولى التي تعتمد على أعداد كبيرة من المتطوعين من القبائل وهؤلاء لا يتواجدون في صورة دائمة في المعسكر بل يحضرون في حال الضرورة وتسلم المرتبات الخاصة بهم إلى شيخ القبيلة أواخر كل شهر، وهذه الطريقة معمول بها في الشمال منذ زمن طويل. وقد أدى هذا التعنت من قبل الطرف الشمالي الأحمري الى تفجير الحرب بخطاب رسمي للرئيس صالح في 27 أبريل 94 من ميدان السبعين بصنعاء.
أما بعد حرب 94 فقد استمر الرئيس صالح ببناء جيوش خاصة به وبأقربائه بمسميات مختلفة خارج نطاق الحكومة مثل ألوية الحرس الجمهوري والأمن المركزي والقوات الخاصة إلى جانب الفرق المدرعة التابعة لعلي محسن الأحمر، ومثل هذا التركيب العسكري المليشاوي يمنع البتة بناء جيش وطني وقيام دولة نظام وقانون، ولم يتم الانتظار طويلا حتى اندلعت ثورة الجنوب السلمية في 2007 وبعدها بسنوات ثورة الشباب في صنعاء في 2011 وما ترتب عليها من تدخلات وركوب للموجة من قبل حزب الإصلاح، وما أفضت إليه من نقل للسلطة إلى رئيس جديد هو الرئيس عبدربه هادي وبقيت مهمة هيكلة الجيش والأمن بمثابة التحدي الأكبر أمام السلطة الجديدة، وقد ظهرت ثلاثة أطراف رئيسية تتصارع على الهيكلة، وهي: حزب الإصلاح المتدثر بسلطة الشرعية، والرئيس السابق صالح، والحوثيون، وفي خضم ذلك الصراع انضم قطاع واسع من قوات صالح إلى الحوثيين، وزاد المشكلة تعقيدا ولم تفلح المبادرة الخليجية والحوار الذي عقد في صنعاء والوسطاء الدوليون من إيجاد حل جذري لهذه المشكلة، على العكس تمدد الحوثي في الشمال ونمت ترسانته العسكرية على حساب قوتي الإصلاح والمؤتمر وزادت المشكلة تفاقما خاصة بعد مقتل الرئيس السابق صالح من قبل الحوثيين، وأضحت في الأرض أربعة جيوش متصارعة (جيش الحوثي، وجيش الإصلاح، وجيش طارق صالح، وجيش القوات المسلحة الجنوبية/ المجلس الانتقالي الجنوبي) والتي خاضت حروبا بين بعضها أدت في المحصلة إلى وصول الحوثي إلى أسوار مدينة مأرب وضرب العمق السعودي والعمق الإماراتي، ناهيك عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية في عموم اليمن بما فيها المناطق المحررة، كل تلك النتائج السلبية دفعت بالتحالف العربي والرباعية الدولية إلى إعفاء السلطة الشرعية لهادي والأحمر ونقلها إلى مجلس قيادة رئاسي جديد يتميز باستيعابه لكل القوى العسكرية المسيطرة على الأرض في المناطق المحررة بهدف حلحلة المشاكل أعلاه ومنها العسكرية والأمنية لما يوفر ذلك من إمكانية لفرض سلام مع الحوثيين أو مواجهتهم عسكريا، علاوة على إصلاح كل الأوضاع الاقتصادية والخدمية الأخرى، ولهذه الأسباب تم تشكيل لجنة هيكلة عسكرية وأمنية شبيهة باللجنة العسكرية المشتركة التي تشكلت قبيل اندلاع حرب 94 وللأسباب ذاتها مع اختلاف الظروف، فما هو غير المتاح والمتاح أمام لجنة الهيكلة، فهل تنجح أم تفشل وتنتهي بحرب كسابقتها؟
إن التشكيلات العسكرية أيًا كان نوعها وطنية أو قبلية أو طائفية أو حزبية أو دينية تعد صورًا لمشاريع سياسية مستقلة عن بعضها قد تكون متقاربة أو متباعدة أو متناحرة، فتوحيد تلك التشكيلات يعتمد أساسا على إمكانية توحيد الرؤى السياسية المعبرة عنها، وإذا ما أسقطنا ذلك على واقعنا اليمني في الشمال والجنوب سنجد التناحر والتباعد بين تلك التشكيلات وقلما يجد التقارب، فالحوثي يريد قوة عسكرية عقائدية شيعية ذات مرجعية إيرانية يفرضها بالقوة على الشمال والجنوب لا تقبل الشراكة، وبالمثل الإخوان المسلمين، لكن بشروط أخرى ومذهب مغاير وهمهم الوحيد هو القضاء على قوة الانتقالي تحت مبرر الهيكلة أو الدمج.
المجلس الانتقالي الجنوبي بنى قوته ليس بفتاوى دينية ولكن بدافع وطني وبُعد سياسي وإرادة شعبية لاسترجاع وطنه المسلوب، وبالتالي قوته تعد قوة عقائدية مستعدة للتضحية تحت علم الجنوب لاستعادة الدولة الجنوبية ومساعدة أي قوى شمالية لديها النية والاستعداد لإعادة الشرعية إلى صنعاء، أما طارق صالح فعلى الرغم من عدم استفزازه للجنوبيين في أرضهم كما فعل الإصلاح إلا أنه وقع في تناقض كبير، فبعد أن سلم عمه الرئيس صالح ألويته العسكرية للحوثي يطلب منها اليوم مقاتلة الحوثيين، وهوما لا يستجب له الكثير من العسكريين الشماليين المنتمين إلى الحرس الجمهوري والأمن المركزي وبالتالي تظل الخيارات أمامه ضعيفة لبناء قوة شمالية عقائدية لتحرير الشمال من الحوثي، فلجأ الى الاعتماد على الجنوبيين والتحالف لتحقيق ذلك.
المملكة العربية السعودية راعية التحالف هي الأخرى دفعت بتجنيد ألوية عسكرية جديدة من أبناء الجنوب بهدف مواجهة الحوثي تحت مسمى ألوية اليمن السعيد بعد ان تيقنت من عدم نية جيش الإصلاح التابع للشرعية من مواجهة الحوثي وبالمقابل استمرار حزب الإصلاح في التجنيد في تعز بهدف السيطرة على الجنوب كل ذلك يضيف صعوبات أمام الهيكلة.
إن المراهنة من قبل قوى الشمال الإصلاح والمؤتمر وطارق عفاش على بناء قوة جنوبية عقائدية لتحرير الشمال او للسيطرة على الشمال والجنوب معا او السيطرة على الجنوب فقط كوطن بديل عن الشمال فهي مراهنة خاسرة لاسيما والجنوبيين قد حسموا أمرهم باستعادة دولتهم ناهيك إن تفكك القوى العسكرية الشمالية وتعميق الثارات بينها قد أضحت أمرا واقعا لا لبس فيه.
وعلى هذا الأساس فإن الخارطة العسكرية اليمنية معقدة جداً، فلا شريكي الوحدة نجحا في الهيكلة في ظل ظروف كانت أسهل مما هي عليه الان، ولا شركاء حرب 94 المؤتمر والإصلاح نجحا لحالهما في ذلك بعد انتصارهما في الحرب على الجنوب رغم الوساطات الإقليمية والدولية، ولا التحالف العربي والرباعية الدولية بتدخلهما المسنود بقرار أممي نجحا في توحيد القوى العسكرية اليمنية المناهضة للحوثي.
إن تلك التعقيدات تنبئ عن وجود مشكلات سياسية عميقة تم تجاهلها والقفز عليها وهي بحاجة الان إلى مراجعة وحلول جذرية يمكن بواسطتها حل جميع المشكلات العسكرية والأمنية والاقتصادية والخدمية.. إلخ، وإذا ما تم القفز والانطلاق في الهيكلة دون ذلك فالمصير هو الفشل المحتوم والدخول في مستنقع حروب بينية متعددة، وعلى مجلس القيادة الرئاسي والتحالف العربي ان يدركا حقائق تعقيدات المشهدين السياسي والعسكري وعدم الفصل بينهما. وإذا ما نظرنا إلى إمكانية الهيكلة وفقا للواقع الحالي فهناك أمور غير متاحة وأخرى متاحة، فالغير متاح هو مشروع دمج القوات في المناطق المحررة جنوبا وشمالا في كيان واحد وتحت قيادة واحدة كون ذلك المشروع قد فشل وأدمن فشلا في كل المنعطفات التي مرت بها الوحدة القسرية الفاشلة بسبب عدم العودة الى جذر المشكلة السياسية التي انتجت تلك التشكيلات العسكرية، أما المتاح فهو مشروع هيكلة القوات المتآلفة والمتقاربة في الهدف والعقيدة في الجنوب والشمال كلٍ على حده مراعاة للخلاف السياسي المزمن بينهما، مع وضع آلية تنسيق وغرفة عمليات مشتركة تجمع الكيانين العسكريين الوليدين الجنوبي والشمالي كلٍ من موقعه لفرض السلام مع الحوثيين أو الاستعداد للمواجهة. وعلى سبيل المثال هناك إمكانية لهيكلة القوات الجنوبية على طريق ما بدأ به القائد عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي بالفصل بين ألوية الدعم والإسناد (تتبع الدفاع) والأحزمة الأمنية (تتبع الداخلية) واستكمال ذلك مع بقية الوحدات العسكرية الجنوبية كألوية العمالقة والألوية التابعة لهيثم قاسم وقوة دفاع شبوة والنخبة الحضرمية والمنطقتين العسكريتين الثانية والرابعة، يقابل ذلك عمل مماثل للألوية العسكرية الشمالية، وما يساعد على ذلك هو الجنوب المحرر والشمال المحتل، وما يترتب عليه من حاجة الشمال الماسة للجنوب للمساعدة في التحرير والخلاص من الحوثي.
وفي تقديري أن الحوثي لا يقبل الشراكة مع أي قوة عسكرية شمالية، فإذا ما رحم الرئيس صالح الذي قدم له خدمات ليست بالحسبان فما بالك بالقوى الأخرى كالإصلاح والمؤتمر، فنظام الحكم الفردي الديكتاتوري الاستبدادي للحوثي سيؤلب كل الشمال ضده بالإضافة إلى الجنوب وبالتالي، فالطريق الأوحد لمواجهته في حال رفضه للسلام هو إبرام تحالف بين الجنوب والشمال مفأدة مساعدة الجنوب للشمال في إعادة الشرعية إلى صنعاء ما قابل إعطاء الجنوب حقه في استعادة دولته واستقلاله على غرار ما حدث في اثيوبيا من اتفاق بين المقاومة الارتيرية والمعارضة الاثيوبية لإسقاط نظام الرئيس الاثيوبي السابق منجستو هيلا ماريام ما قابل الحصول على استقلال إرتيريا، وبالتالي يعتمد نجاح مثل ذلك التحالف المقترح في اليمن على مصير الهيكلة العسكرية والأمنية والآلية المتبعة في تنفيذها.