مقال ل: هاني مسهور من طوائف لبنان إلى قبائل اليمن.. المأساة والفواجع واحدة
الوسطى اونلاين – خاص
أمين الريحاني، الأديب البارع، طالما كان شاهد إثبات أول في حكايات اليمن ومروياته في التاريخ المعاصر. زيارته التي سجل فصولها في كتابه الشهير “ملوك العرب” ظلت متواترة، وستظل كذلك، لأجيال مقبلة تروي عن اليمن بقبائله وموروثاته وتقاليده وحتى طبائعه وخصائصه، لتبقى شاهدا في كل حادثة يمنية تتكرر في التاريخ السياسي والاجتماعي على مدار العقود. لبنان واليمن ضحيتا فكرة حالمة صنعت واقع الحال على امتداد القرن العشرين، وما زالت في القرن الحادي والعشرين تصوغ اللحظة الراهنة بكل ما فيها من تجهم سياسي. لبنانياً، ومع نهاية حقبة الانتداب الفرنسي زرعت فكرة “لبنان الكبير”، وكان على اللبنانيين التعايش في إطار سياسي يجمع الطوائف والعشائر وفق معادلة غير منسجمة وذلك لانعدام حقيقة الاستقلال الوطني. وكان على الشعب أن يتعايش مع الانتداب؛ أي بوطن لا سيادة له. شكّل لبنان الكبير حلماً في الوجدان اللبناني الذي تحفز في منتصف القرن العشرين لانتزاع الاستقلال الوطني، معلناً النظام الجمهوري الذي تحقق في 1946. الحلم ظل مسكوناً بلبنان الكبير وممتزجاً بصورة التعايش المثالية التي جسدتها الولادة لذاك الـ”لبنان”. فيما لا يزال السياق التاريخي لإنشاء دولة لبنان الكبير مثيراً للجدل الطائفي؛ والصورة الخالدة التي تجمع الجنرال غورو والبطريرك الماروني والمفتي السني، في قصر الصنوبر في بيروت، تعكس الإطار الطائفي الذي رافق ولادة هذه الدولة. ما في لبنان، هو في اليمن، الذي أنشأ أول كيان سياسي في ظل صراعه مع الحكم التركي (العثماني) عندما أعلن الإمام يحيى حميدالدين المملكة المتوكلية اليمنية عام 1918. بحلم الدولة الطائفية الزيدية التي تواجدت في شمال اليمن منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ولدت الدولة اليمنية على حلم التوسع الجغرافي. وكما حدث مع لبنان ظلت الفكرة، الحالمة بدولة ملكية، منغلقة على محيطها ومعزولة عن العالم، خشية أن يتأثر الشعب ويثور على نظام الحكم. “اليمن الكبير” ليس مصطلحاً عابراً، بل هو نواة زرعت في الذهنية اليمانية منذ الأزمنة البعيدة، على اعتبار أنه الركن اليماني الذي يقصد به يمين الكعبة. اليمن، من هذا المنظور، يعد جهة لا دولة. ويمين مكة المقصود به كل ما هو يمين الكعبة (أي جنوبها) من القبائل العربية جهة اليمن، أي من يمين الكعبة حتى الجنوب، لا كما يعتقد بأنها دولة اليمن التي كانت تسمى “مملكة أكسوم الحبشية”، ومنها انطلق “أبرهة الأشرم” لهدم الكعبة. وعبر العصور ترسخ المفهوم عند القبائل الساكنة لهذه الجغرافيا، فلم يغادر اليمن الكبير البدو الرحل، كما لم يغادرهم الإحساس أنهم يتعايشون مع جبال عالية وسهول ممتدة حتى نهاية اليابسة عند باب المندب. العشائر توارثت حقيقة أنها تعيش بامتدادات الأرض، حتى مع التكوين المعاصر للدولة لم يعرف الناس كيف يغادرون موروثاتهم التي مزجوها مزجاً، وإن كانت عصية على الامتزاج، لتكوّن أفكارهم عند تلك الأولويات القديمة؛ تعاقب البشر، ولم يعرفوا سوى أنهم ممتدون بلا أفق لسياسة الواقع والتطور الذي غيرّ الخرائط وحدد الهويات الوطنية. اليمننة كاللبننة، لا فرق سوى أن اليمن في قعر جزيرة العرب ولبنان في سقفها الأعلى مكاناً. ورغم أن لبنان حظي من الاستعمار الفرنسي بنصيب وافر من التعليم، إلا أنه ظل حبيس محاصصة الطوائف بعقائدها ومذاهبها، ففر اللبنانيون فرادى وجماعات صوب المهجر اللاتيني والمهجر الأميركي البعيدين بحثا عن مواطنة مفقودة في بلدهم. بينما اليمنيون لم ينالوا حظاً من التعليم، حيث جثم الأتراك، وقبلهم الفرس والأحباش، على صدورهم دون أن يبنوا مدرسة في شمال اليمن. فيما حظي الجنوب باستعمار بريطاني صنع درة تاج المستعمرات في عدن، فكانت بمثابة جوهرة ما زالت قبائل اليمن الشمالية تلهث لاقتنائها باسم المذهب وأعراف القبائل وتقاليدها. فهي كما يرون غنيمة الحرب التي كسبوها بعد صيف عام 1994. المحاصصة في النظام الجمهوري العربي هي مكاسب للزعامات، تمنحهم الحصانة البرلمانية. وهذه أكبر جائزة يمكن الحصول عليها. فلا عجب أن يتسابق في اليمن ولبنان المرشحون للفوز بمقعد تحت قبة البرلمان، فالمقعد يوفر الحماية، ويمنح قبل ذلك الوجاهة الاجتماعية المطلوبة. ورغم أن الكل يدرك أن المحاصصة هي السم القاتل للدولة الديمقراطية كمفهوم عميق للدولة الحديثة، وفقاً لمعايير الليبرالية، إلا في اليمن ولبنان والبعض من البلدان العربية، لا مانع أن تموت الديمقراطية مسمومة، ليحظى الزعماء بمقاعد برلمانية تورث للأبناء والأحفاد. مشهدان يختزلان التشابه بين الطوائف اللبنانية والقبائل اليمنية؛ فبين انفجار مرفأ بيروت عام 2020 وسقوط صنعاء عام 2014 حكاية منسوجة بيد أمراء وتجار الحروب وصناعة الأزمات القاتلة. تختنق العاصمتان إلى حد الموت، بينما يخرج تجار السياسة في كلا البلدين يوظفون المأساة وفق مصالحهم ومصالح طوائفهم وقبائلهم، تماماً كما جرت العادة منذ عقود بعيدة أعلن فيها عن بيروت وصنعاء عواصم لأنظمة جمهورية أفضل ما فيها هي اللغة الفصحى في صياغة الدساتير. بينما يموت الإنسان في قوارب الهجرة غرقاً، أو بسبب ألغام مزروعة في الشوارع. ومن الأجدر التوقف عند هذا، من الموت جوعاً وقهراً، لإعادة تعريف الدولة الوطنية للبنان واليمن ليشمل كل الجمهوريات العربية الفاشلة سياسياً.