«أصنامنا».. منا وفينا!
كتب/ هاني مسهور
واحدة من المعضلات المعقدة في الذهنية العربية أنها هي التي تصنع الأصنام وتحولها لاحقاً إلى مقدسات يجب عدم المساس بها. وعلى ذلك ظلت الثقافة العربية محدودة المكان فلم تستطع تغيير الواقع المعيش رغم محاولات الخروج من نطاق الدائرة الممسكة والمتمسكة بما افتُرض أنه ثوابت هي في حقيقتها موروثات متراكمة من التقاليد والأعراف التي شكلت نمطية العرب حتى وهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين. ففي نقد الذهنية محاولة للوصول إلى نقطة ليست في الواقع بعيدة بمقدار ما هي أقرب من ما نتصور غير أن القدرة على تحطيمها هي المتعسرة وهي التي تؤخر وتعطل التنمية المجتمعية.
مشكلة الماضي كما المستقبل هي أنهما يبعدان الإنسان بشكل فعلي عن الانخراط في مجتمعه وقضاياه، إضافة إلى أنهما يمثلانِ نوعاً من الهروب الاضطراري لعُقدٍ وجروح تلازمنا بفعل هذا الانحدار الذي وصلنا إليه، لذا فإنه يجب حصر الموقف من الماضي أو التراث بشكل عام واختزاله في اتّجاهات أساسية تتلخص في النّزعة التّحييدية. وإنْ كان التّيار الفكري الأكثر مقاربة لهذا المنتوج التراثي في عالمنا المعاصر، هو التّيار الفكري السّلفي، الذي انشغل أكثر من غيره بالتّراث، دون الرغبة في تجاوزه أو تصحيحه أو إصلاحه من خارج المنظومة المنشئة له.
التراث العربي والإسلامي لا يمكن اعتباره مقدساً فالآراء الفقهية التي صنعها أشخاص تمثل أزمنتهم وعصورهم ولا تقتضي استدعاءها مع عصور متجددة، ولا ينبغي بالمطلق اعتبارها مقدسة. استحكام السلفيين بكل تعريفاتهم بالنقل دون استحضار العقل فيه تجميد للاجتهاد، الذي هو واحد من محركات الفقه الإسلامي، وهنا بالضرورة تكون المواجهة مع تيارات تعرف أنها في حال تخلت عن ما تعتبره ثوابت عقائدية، فإنها ستخسر تحصيناتها المصنوعة بتابوهات القدسيات المزعومة. التصادم الحتمي وإن بدا في ظاهره عنيفاً لتضاد الأفكار، فإنه يظل الفعل الأوحد لمعالجة المعضلة المعطلة للتطور الطبيعي للدولة الوطنية العربية الحديثة.
الخشية من أن هناك أضراراً ستحدث من جراء المواجهة هي خشية مصنوعة من الطرف المتشبث بما يعتقد أنها مقدسات لا يجب الاقتراب منها، وهؤلاء كانوا قد أعدو العدة لهذه الحقيقة منذ أزمنة استحكامهم الأول بالعقل العربي ومنعوا عنه التفكير باعتباره خصماً حقيقياً لهم ولحظوتهم التي منها سيطروا على المجتمعات وحولوها إلى قطعان تذهب وتجيء بالكيفية التي تحقق لهم مزيداً من القوة في التمكين، وهو ما تسبب لاحقاً في طمعهم بالسلطة السياسية على اعتبارها جائزة لهم فهم الأوصياء على الأصنام.
الوهم لا يخلق حقائق، بقدر ما يخلق واقعاً مزيفاً قائماً على التضليل والتبرير والتخويف، لهذا أول ما تستهدفه الجماعات الأصولية أو الشموليات أو الدوغمائيات هو العقل، أو أن تجعل مسافة بين الإنسان وعقله بحيث لا يستطيع الاقتراب من مناطق التماس أو الاشتباك، لهذا فوجود منابر فكرية أو إعلامية شيء مهم. ولكن الأهم من كل هذا هو تفكيك هذه الأوهام التي تقوم عليها ثقافتنا، حيث يتم صناعة الأصنام الذهنية. ولا بد من الاعتراف أنّنا اليوم أمام «أصنام» وأوهام تتجاوز المألوف، وتتحدّى العقل الإنساني حينما يلجأ الإنسان إلى التعصّب تجاه ما صنعته أوهامه، وآليات تفكيره، ومنتوجات ثقافته.
صحيحٌ أنّ المتعصب إنسان المقدّس بامتياز. لسنا بحاجة أكثر إلى الدفع ناحية تشريح حالة العقل العربي والإسلامي فلقد بذل التنويريون الكثير من الجهد في سبيل ذلك دون وصول ملموس إلى نتيجة يمكن البناء عليها، فلا يمكن الوصول إلى نتيجة بعد أن تظل الدائرة مغلقة من دون خطوات جادة من الجهات المعنية بالدول الوطنية القائمة على فتح النافذة التي سيدخل منها الهواء القادر على تجديد الخطاب الديني ونفض الغبار عن كتب التراث، فهذا هو القرار الذي سيحطم أصنام الوهم لتتعايش المجتمعات العربية، وتطلق قدراتها لتكون مجتمعات منتجة، فالعبرة بالمنتج في عالم يسحق المستهلكين والخائفين من أصنام صنعوها بأيديهم.