أراء وكتاب وتغريدات

قطائف حضرمية( الحلقة الاولى)

للصحفي / أحمد باحمادي

الوسطى اونلاين – خاص

( ١ ) ريموت كنترول

اعتكف أمام التلفاز .. قلّب بريموته الكنترول شتى الفضائيات .. أحبّ الأخبار .. العادي منها والعاجل .. تتبّعها تتبع النحلة للرحيق .. امتلأ راسه الفارغ بأنواع التحليلات .. ضيّع وقته الثمين .. تقلبت مقلتاه دوماً .. في وجوه المذيعين والمذيعات .. نقل قناعات المحللين وأفكارهم .. في المقاهي .. المنتديات .. والدكك .. صدّق الهراء والأكاذيب .. واقتات منها كل حين .. وقف على أطلال السياسة .. أحيا زيف السياسيين .. دافع عنهم .. استمرّ على مرائه سنين .. ثم استوعب الدرس  .. أخيراً .. ها هو اليوم يقبع في أحد المقاهي .. وفمه محكم الإغلاق .

( ٢ ) جامع سوق

قُضيت صلاة الجمعة .. انصرف الإمام بالتسليم .. رأى القومَ تتجمّع على هيئة حلقات .. ليس لمذاكرة العلم .. لا  للذكر أو التسبيح ..  إنما للقيل والقال .. وأخبار الرياضة .. صار المسجد في ضوضائهم .. كسوقٍ للقات .. نعم .. كسوق للقات .. هيصة .. كلام .. ضحك .. وتنكيت .. تعجّب .. أهكذا يفعل المسلمون في بيوت الله .. ؟ لو فُعل في بيوتهم ما رآه .. لقامت قيامة أرباب البيوت .. !! إذاً .. كيف يرتضون .. ويصمتون .. !!

صمت الجميع صمت القبور .. !! لم يتكلم مخلوق .. لم ينهَ عن المنكر أحد .. بل ربما شارك الجميع في الهوشات .. تألم قلبُه من دون كلمات .. وفي الجامع خرج مسرعاً .. لم يتقاسم اللغو ..  لم يتشارك الغيبة .. والهراء .. خاطب نفسه : ” ما يحدث.. طقس معيب .. يجب أن يتوقف ” .. ألقى سهمه الأسود .. ليقتل الصمت .. وليبرأ أمام الله عند الحساب .. ألقاه في فضاء الافتراض .. حيث الكلمات تنغرز في خاصرة الصمت الكبير  .

( ٣ ) صراع

شبّت نيران الخلاف بينهم .. تفرقت عوائلهم .. تعقّدت علاقاتهم .. وصاروا كالعهن المنفوش .. ساد بينهم النزاع .. واشتعل أواره .. أتى على الأخضر واليابس .. مدّت سنين البَين أذرعَها .. وتطاولت .. جاءهم مصلح .. لا يبتغي أيّ مصلحة .. شدّ حبال التواصل .. وجبّر المكسور .. شدّ المرخي .. وأرخى المشدود .. كشعرة معاوية .. فُتحت أحضان المحبة .. امتدّت أيدي التصافح .. والتسامح .. ذاب جليد الكُره .. وساح شمع التفرق والحنق .. عادت مياه الجوار إلى مجاريها .. وزغردت حناجر الفرح .. ” لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا “.

( ٤ ) قصة حضرموت

ساروا على الدرب فما وصلوا .. سهروا الليالي وما بلغوا المعالي .. رأى أرضهم بالخير عامرة، تتفجر الثروات من جنباتها .. بالرغم من ثرائهم .. وجدهم لا يحتفون بالحياة .. آمالهم .. أموالهم .. أرضهم .. نفطهم .. جميعها تُسرق .. بينما يعيشون في الظلام .. ولماذا إن ساروا على الدرب ما وصلوا .. ؟ ” تساءل ” أجابه شيطان الواقع : لأن الخلاف نشب بينهم أظفاره .. تلك قصة حضرموت.

( ٥ ) تاكسي ( إنجيز )

أشارت بيدها البضّة مراراً لاستيقاف تاكسي ( إنجيز ) .. كانت وحيدة .. لكنها بدت متجملة .. متعطرة .. متبرجة .. ركبت في الخلف .. ومضت عينيها ومضات براقة على مرآة السيارة .. برموشها السوداء سحرت السائق .. أشارت إليه بوجهتها .. كانت المسافة تبعد ربع ساعة على التقريب .. المسافة كانت كافية لأن يقتنع السائق .. بهدفه الخبيث .. أصرّ على استغلال الفرصة حينما وجدها معه دون مرافق .. وفي لمح ثانية .. حوّل وجهة الطريق .. ظنت أنه سلك سبيلاً آخر مختصراً .. لذا غاصت في لجّة الصمت ولم تتكلم!!

بعد عشر دقائق .. تداخلت عليها ملامح الطريق .. لم تعلم في أيّ مكان هي .. شعرت أن شيئاً يتهدّدها .. وأن أمراً يوشك أن يحدث .. نظرت إلى السائق .. لفحتها حرارة عينيه .. كان يفور فوراناً .. تململت في كرسيّها .. أرادت أن تسأله عن الطريق .. وعندما همّت .. رأت يديه تمتدان بعنف .. رفرف قلبها .. دار في خلدها أن الأمر لا يعدو تحرّشاً .. لكنْ هناك .. داخل السيارة .. حدث ما لم يكن في حسبانها.

( ٦ ) للأيتام فقط ..

كان عاملاً بسيطاً .. يكدّ بيديه ورجليه من أجل لقمة العيش لأسرة كريمة .. تعتريه في أحايين كثيرة فترات من الإفلاس وقلة العمل .. جيرانه كانوا من الأيتام .. يكبرهم فتىً شارف على البلوغ .. يعيشون مع أمهم الأرملة .. جارهم كان يعيش ظروفاً صعبة .. تقوقع الأب في زاوية خفية في البيت .. بكى من قلة ذات اليد .. سكب الدموع على سوء حاله .. كم خجل إذ سأله أولاده ريالات للعصر .. في حين لا يملك إلا الضروري من المال .. جاره الفتى اليتيم .. يملك دراجة ذات طراز فاخر .. وجوالاً متميزاً بكاميرا ولوحة لمس .. تنهال على الأيتام في كل حين .. الصدقات والزكوات .. الأعطيات والمساعدات .. الكفالات والحسنات .. ولا يصل للجار المسكين منها شيء.

عارك الحياة .. متطلباتها .. كم بكى من تكاليف رمضان .. وملابس العيد .. بينما الناس فرحين .. كان يبكي في هاتيك المناسبات السعيدة .. رمى جيرانه التمور لفسادها من طول التخزين .. باعوا القمح قبل أن يدول .. نظر الجار المسكين بعين الحُرقة والألم .. لم يكنْ يوماً يحسد جيرانه على ما آتاهم الله من فضله .. غير أنه بات يتساءل في دخيلة نفسه : ” ما بال الأيتام يعيشون آمنين .. !!  ما بال الأيدي البيضاء لا تربت بأكفِّ الرحمة إلا على أكتافهم .. !!  بينما غيرهم في لجج الفقر يغرقون .. ؟!!

( ٧ ) مخدرات..

صنع لنفسه طقساً لتعاطي المخدّر .. سقط في حمأته السوداء وتوارى خلف جُدُر الخوف .. كل يوم دماؤه تجري على مذابح الفقر والدموع .. دموع أسرته تُسكب كلما جاء إلى البيت منتصف الليل .. يحدث هذا كلما تجددت الشمس .. أو غابت من عينيه حمرة الشفق .. مَضغة .. قات .. مهدئات وأدوية نفسية .. أعقبها مخدر .. فانحدَر وأضحت أطلال نفسه مهجورة منذ زمن طويل .. وعلى طريق الهلاك تهاوى.

( ٨ ) بُشرى..

أسند ظهره، بثّ البشرى .. كان في مقابلة هامة رنَت إليها أبصار الشعب المظلوم ، ساق بشراه : أنّ دعم الديزل والمازوت سيتواصل.. بشّرهم أن الكهرباء لن تنقطع مجدداً .. فجأة تسيّد الظلام .. توقفت المقابلة .. انقطعت الكهرباء.

( ٩ ) قوت قمامة!!

جلسَت مقرفصة وسط كومة من الأجساد الصغيرة النائمة .. كان الإعياء قد نال منهم، بدت أصواتهم ضعيفة لقلة الاستخدام .. تساقطت أجفانهم من الجوع .. وها هم صرعى لأحلام لا ترحم .. خافت أن يستقيظوا ولا يجدوا بين يديها شيئاً ليأكلوه .. تناولت خمارها وتدثرت .. انطلقت لأكوام القمامة وبراميلها ، بحثت في كل شبر منها .. أخيراً وجدت ما يسدّ الرمق.

كان الوقت فجراً .. صادفتها أثناء خروجي لصلاة الفجر في المسجد .. آلمني صراخها الصامت .. بدأت الريح تثور .. تساقطت الأمطار بكثافة .. ما أرحمك يا رب .. لا زلت تمطرنا برحمتك .. وقد أمسكنا رحماتنا عن مثل هذه الأم.

نلتقي في الحلقة الثانية من قطائف حضرمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى